Friday, April 17, 2020

قمر أسود

"يا أبتاه، أبتاه الطيب أقدم لك ذاتي، وأضع نفسي بين يديك. يا ملاك الله، أنت حارسي؛ أنرني، احمني، أسندني وقدني، أنا الذي أوكلت إليك من الرحمة الإلهية. أرجوك يا أبتاه خلصني من شرور أخي الأصغر وطغيانه وجبروته. أخرجني من بين براثن قوته وسطوته علي"
              بهذه الكلمات والأدعية كان جوزيف جاثياً على ركبتيه ورافعاً يديه باتجاه النافذة، نحو القمر الأسود الذي كان يملأ سماء ذلك اليوم المظلم وذلك في مدينته "أوريغون" بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية. وجل ما كان يرجوه من هذا القمر هو أن يوصل رسالته إلى الرب حتى ينقذه من جبروت أخيه وشقيقه الأصغر "مايكل" والذي كان يصغره بعشر سنوات تقريباً.
              لقد كان جوزيف يبلغ من العمر السبعة وعشرين ربيعاً. وكان هو الأوحد في هذه العائلة المنكوبة. ثم يأتي بعد ذلك شقيقه الأصغر "مايكل" والذي كان جباراً عتيا ولا يضع لوالديه أي اعتبار أو حتى وجود في حياته. وأهم ما كان يتلذذ به مايكل هو التنكيل بأخيه وشقيقه الأكبر والذي كان يذيقه وبشكل يومي أنواعاً مختلفة من الإهانات والشتائم والسباب. ولم يكن بمقدرة جوزيف أن يردعه لأن والداه أوصاه قبل أن يسافروا إلى القارة القطبية الجنوبية بمهمة عمل تستغرق 6 سنوات بأن يهتم بأخيه مايكل وأن يرعاه كأنما هم حاضرين بينهم.
              وأما المصيبة الأخرى فقد كانت شخصية جوزيف ذاتها والتي قام والده بتدميرها وجعلها كحشرة مسحوقة بالأقدام. ولم يكن والد جوزيف يمنح ابنه أي صلاحيات أو حتى أن يشجعه على مواجهة الحياة. حتى أصبح جوزيف يوماً بعد يوم لا يقوى على نهر ذبابة من أن تحوم حوله خشية إزعاجها.
              نعم ،،، جوزيف محطمٌ بالكامل ولم يكن هناك من يواسيه أو أن يمسح عن عينيه تلك الدموع التي يتسبب بها أخيه الأصغر مايكل. والذي كان يقابل كل إهانة يتلقاها منه بابتسامة جميلة وربت على الكتف وعبارة "كم أنا أحبك يا أخي!!!". وأما في حال قيام مايكل بالبصق عليه فإن كل ما بوسع جوزيف هو تناول قطعة من المناديل البيضاء ومسح تلك القذارة التي قذفها شقيقه عليه.
              ما أصعب حال جوزيف و ما أشد ما يمر به. وقد استمر هذا الحال لعدة أيام منذ سفر والديه حتى أتى هذا اليوم الغريب والذي كان منتصف الشهر القمري وكان القمر فيها مكتملاً لكن بلون أسود قاتم وحالك السواد. وكل من ينظر إلى هذا القمر كان يصاب بصعقة شديدة في عقله من هول المنظر وكِبَر حجم القمر، الذي كان أكبر بمرات عديدة عن الحجم المعتاد في حال اكتماله منتصف كل شهر قمري. وعن اللون فلم يسبق أبداً أن اكتسى القمر بهذا اللون الأسود والذي اعتاد العالم وساكني هذه الكرة الأرضية أن يشاهدوه أبيض اللون كبياض الثلج في ليالي الشتاء.
              لكن يا ترى ما الذي حدث بالضبط؟ وما الذي دفع القمر إلى أن يصبح لونه هكذا. هل بسبب غضب القمر الشديد على مايكل وتصرفاته تجاه شقيقه الأكبر؟ أم أن هناك خطبٌ ما ينتظر البشرية جمعاء.
              وأما السؤال الآخر الذي يطرح ذاته الآن ... ما ذا لو كان السبب هو مايكل فما ذنب بقية سكان الأرض أن يؤخذوا بجريرة مايكل وعمله المشين تجاه أخيه؟ هل يعقل أن يتسبب شخصٌ تافه مثل مايكل في أن يقلب لون القمر إلى هذا اللون الحالك والسيء للغاية، والذي أعتقد في قرارة نفسي بأن هذا اللون يدل على تشاؤم شديد من القمر لما سيكون عليه قادم الأيام. وعلى سكان الكرة الأرضية أن يستعدوا لهذا الشيء الغامض القادم إليهم.
              وبالعودة إلى المسكين جوزيف ... فقد كان يتلو صلواته تجاه القمر ويرجو من القمر أن يوصلها إلى الرب كمرسول خير ومحبة وأيضاً كسفينة نجاة لأجل تخليصه من هذا العذاب. وقد كان يمسك صليبه وينادي بأعلى صوته "يا أبتاه!!!، يا أبتاه!!!" حتى بدأت حبال صوته بالضعف رويداً رويدا إلى أن خارت قواه وغاب عن الوعي أمام النافذة وأمام مرأى هذا القمر الأسود الغاضب وهو يمسك بين يديه ذلك الصليب و يحتضن المسيح المصلوب بكل قوة لعله يسمع أنين ألمه وصراخه.
              وما هي لحظات حتى دخل مايكل إلى غرفة جوزيف من دون أن يطرق الباب أو يستأذن في الدخول وشاهد جوزيف وهو مرمي على الأرض والصليب بين أحضان يديه، ليركله بقدمه ركلة شديد لأجل إيقاظه من هذه الغيبوبة التي أصابته. لكن جوزيف لم يستجب لهذه الركلة التي إن تلقاها شخص آخر لربما يصاب بنزيف داخلي.
              يا ترى ما الذي حدث معك يا جوزيف؟ ولماذا لم تستجب لهذه الركلة المؤلمة والمدوية التي سددتها لك؟ هل غادرت هذه الحياة؟ هل رحلت روحك النجسة إلى السماء؟ هل سئمت من كل هذا الألم الذي اسببه لك؟
              جميعهاً أسئلة مختلفة كانت تدور بداخل عقل مايكل وهو يركل في جوزيف مرة تلو مرة حتى سئم من الركل وتركه ثم غادر غرفة جوزيف باتجاه غرفته في آخر الممر بالطابق الثاني. وهناك وقبل وصول مايكل إلى مقبض باب غرفته ... اهتزت الأرض هزاً عنيفا، وكأنما القيامة قد قامت وحانت معها ساعة الحساب على جميع الأفعال المؤذية والقذرة التي كان يفعلها مايكل تجاه شقيقه جوزيف.
              ومع اشتداد الهزة ... حاول مايكل أن يتشبث بأي شيء حوله فلم يستطع حتى بدأ المنزل ينقلب رأساً على عقب و بدأت الأشياء من حوله تصبح بشكلها المقلوب. وقد ازدادت حيرة مايكل أكثر فأكثر لينظر من حوله حول ما هو فاعل فلم يستطع إيجاد حلٍ لهذه المعضلة إلى أن رأى شقيقه جوزيف وهو يطير أمامه وكأنما تحول إلى إحدى الشخصيات الخارقة التي كانوا يشاهدونها صغاراً على قنوات الأفلام الكرتونية.
              اتجه جوزيف وهو يطير في الهواء وغير مدرك لما يقوم به نحو شقيقه مايكل الذي اعتراه الخوف والقلق من هيئة أخيه والتي يراها عليه لأول مرة في حياته.
              فجوزيف كان حينها يستطيع الطيران بكل حرية وأن يتجول في أي مكان يشاء، وكانت عيناه شديدة الاحمرار، وكأن الغضب يتفجر من عيني جوزيف وذلك الحقد الدفين في قلبه بدا أمام مايكل كبركان كان خامداً لفترة طويلة ثم انفجر في هذا اليوم. وعن أيدي جوزيف فقد تحولت إلى هيئة غريبة، حيث أن أصابع يده العشرة قد أصبحت طويلة للغاية، لربما يصل طولها إلى عشرة أمتار. ولا أحد يعلم سر تحول هذه الأصابع إلى هذا الطول بالتحديد.
              وفي طيران جوزيف نحو أخيه مايكل كان الرعب والخوف يتملك الأخير حتى بال على ملابسه من شدة الخوف والرعب. ولم يكن جوزيف في كامل وعيه تجاه تصرفاته أو ما يقوم به في هذه اللحظة من إرهاب لأخيه الأصغر. وكأن قلبه وروحه من الداخل تدفعه لكي ينتقم من كل تلك الأيام السابقة والتي كان يرى فيها سواد حياته وضعف حيلته.
              وعن التفسير الوحيد لما حدث مع جوزيف فالقمر هو السبب. حيث أن القمر قد سمع رسالته وأنين ألمه وصوته الخافت في حلكة ظلام غرفته. ويبدو كذلك أن رسالته التي كان يرغب جوزيف في إيصالها إلى الرب كي يخلصه مما ألم به، كانت قد وصلت إلى القمر. وقد حاول القمر مراقبة الوضع يوماً بعد يوم لعل مايكل يتوقف في أحد الأيام عن سوء صنيعه تجاه شقيقه الأكبر وأن يبدي له قليلٌ من الاحترام والتقدير. وبرغم كل ذلك فقد استمر أذى مايكل تجاه جوزيف بلا توقف أو هدنة مؤقته أو حتى أن يترك جوزيف في حال سبيله.
              وهذا السبب الذي دفع بالقمر لأن يظهر غضبه وشدة بأسه في هذا اليوم بالتحديد وأن يظهر للكرة الأرضية بهذا اللون الأسود القاتم الذي أصاب كل من شاهد هذا القمر في هذا اليوم بحيرة شديدة من أمره وجعلته يفكر كثيراً في مصائبه وسواد أعماله التي عملها في حياته.
              وما كان من غضب القمر بهذه الشدة والقوة إلا لكي تمنح جوزيف تلك القوة الخارقة التي جعلت سبل الانتقام من مايكل في أبسط وسيلة وأقوى نتيجة وهي إدخال الرعب إلى قلبه حتى يتمزق حزناً ورهبة من شدة ما يرى. ومن دون أدنى اكتراث من جوزيف تجاه شقيقه مايكل ولا حتى أن يفكر للحظة واحد بأن هذا الشخص الذي يعتقد في قرارة نفسه أنه عدو له ما هو إلا شقيقه في هذه الحياة وأخاه الذي يجب عليه أن يرعاه وأن يهتم به
              وفي خضم هذا الصراع ... وانطلاقة جوزيف الصاروخية من أمام باب غرفته نحو مايكل الذي يراه أمام عينه واقفاً بالمقلوب أما باب غرفته وبين إرتعاشة جسد مايكل وخوفه الشديد مما سيفعله جوزيف به وكذلك قيامه بتبليل سرواله الداخلي بعد أن تبول فيه ... سمع جوزيف صوتاً بعيداً وهو يناديه "هيا يا جوزيف استيقظ لقد تأخرت عن باص المدرسة!!!"
              نعم،،، لقد كانت والدة جوزيف توقظه من هذه الأحلام والكوابيس المزعجة التي رآها في منامه. ومن خلف والدته كان مايكل يقف بابتسامة بريئة وطفولية وهو يلقي التحية إلى جوزيف ويقول "صباح الخير يا أحلى أخ بالدنيا"



محبكم

#أحمد_حسين_فلمبان
كاتب & محاسب 


#إبتسامة_قلم 

No comments:

Post a Comment